انقلاب ناعم في كولومبيا- بيترو يواجه مكائد اليمين للحفاظ على ولايته.

وسط مخاوف جمة تتفاقم من كمائن اليمين المتربص بأقل الهفوات قبل الأخطاء الجسيمة، ضاعف الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو جهوده الحثيثة في الأيام القليلة الماضية، وأطلق نداءات متكررة لأنصاره بالنزول إلى الساحات والتظاهر بقوة، وذلك بغية الذود عن الحكومة التي انتخبوها بإرادتهم الحرة في صيف عام 2022، والتصدي بكل عزم وحزم للمؤامرات الخبيثة التي تُحاك ضدها في الخفاء والعلن، سواء على الصعيد القضائي أو الإعلامي، بهدف إجهاض مسيرتها قبل انقضاء ولايتها القانونية المقررة في عام 2026.
وقد وصف الرئيس بيترو الوضع الراهن وبكل وضوح وصراحة بأنه "انقلاب ناعم"، لا سيما مع اقتراب الموعد المرتقب لتعيين مدعٍ عام جديد خلال هذا الأسبوع، ومع العرقلة المتعمدة لانتخاب أحد الأسماء التي اقترحها هو شخصيًا، ومع الإبقاء على أذرع اليمين المتنفذة في مواقعها الحساسة.
رئيس يساري
على الرغم من أن خصوم الرئيس بيترو يتفقون إجمالًا على التقليل من شأن عبارة "الانقلاب الناعم" وتشويهها، ويتهمون الرجل بالمبالغة والتهويل، إلا أن المعطيات الراهنة على أرض الواقع تمنحه شرعية مطلقة لاستخدام هذه العبارة، سواء فيما يتعلق بالتفاصيل الدقيقة المحيطة به وبحكومته وحتى بأفراد أسرته، أو فيما يتعلق بتفاصيل المشهد السياسي العام المتشابك والمعقد في كولومبيا.
فالرئيس بيترو يمثل رمزًا تاريخيًا، لكونه أول رئيس يساري يصل إلى سدة الحكم في كولومبيا، وقد تولى هذا المنصب الرفيع في شهر أغسطس/ آب من عام 2022، بعد هيمنة ساحقة وغير مسبوقة لتيار اليمين دامت قرابة 200 سنة متواصلة. وقد وصف الزعيم الراحل هوغو شافيز كولومبيا يومًا ما بأنها "إسرائيل أميركا اللاتينية"، وذلك نظرًا لكونها أقوى حليف استراتيجي في المنطقة لإسرائيل وللولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يفسر بكل تأكيد ضخامة حجم الآلة الإعلامية الهائلة فيها، وقوة وسطوة خطابها اليميني في تشكيل وصناعة رأي عام يخدم مصالح واشنطن.
ومن المفارقات العجيبة أن رموز اليمين استهانوا بتبيهات الرئيس بيترو المتكررة بشأن تعرضه لانقلاب ناعم يسعى للنيل منه وتقويض حكمه، زاعمين بكل سخرية أن كولومبيا، على عكس سائر بلدان المنطقة، لم تشهد يومًا أي انقلاب عسكري منذ بداية تجربتها الديمقراطية الهشة، وهو ما أثار حفيظة أنصاره وأجج غضبهم، فردوا عليهم قائلين: إن كولومبيا لم تشهد أي انقلاب عسكري في ظل حكم اليمين، لأن الإدارة الأمريكية لم تكن في حاجة ماسة إلى ذلك!
حملات إعلامية مسعورة
من جانب آخر، يمكن لتنويهات الرئيس بيترو بشأن الانقلاب الناعم أن تكتسب مصداقية راسخة إذا ما أمعنا النظر في الماضي القريب لتاريخ الرجل، حيث تعرض عندما كان يشغل منصب عمدة العاصمة بوغوتا في الفترة الممتدة من عام 2012 إلى عام 2015 لقرار جائر من النيابة العامة بإقالته من منصبه الرفيع، وذلك بسبب خلافات جوهرية حول إدارة ملف النفايات الحساس، وأصدرت حكمًا قاسياً بحرمانه من حقوقه السياسية لمدة 15 سنة.
لكنه استنجد بالقضاء الدولي النزيه وبالمحكمة العليا العادلة، وتمكن بفضل ذلك من استعادة منصبه المرموق، ليكشف بكل جرأة أن قرار إقالته كان قرارًا تعسفيًا يفتقر إلى أي سند قانوني، ويهدف بالأساس إلى استبعاده من أي سباق انتخابي مستقبلي، إلى أن فاز عن جدارة واستحقاق برئاسة البلاد في عام 2022، واستمر كابوس شعبيته الجارفة جاثمًا بقوة على صدر خصومه.
إضافة إلى ذلك، وعلى مدى الثمانية عشر شهرًا التي مضت من عمر حكمه، يعيش الرئيس بيترو حالة من التوتر الدائم والقلق المستمر، بسبب الحملات الإعلامية الشرسة التي تسعى بكل ما أوتيت من قوة لضرب صورته وتشويه أدائه وتقويض حكمه، بل وحتى النيل من حلفائه المقربين وأفراد عائلته.
أما المواجهة الأكثر استنزافًا للجهود، فتتمثل في مواجهة عمل المدعي العام والنائب العام، اللذين يمثلان حائط صد منيعًا أمام حلم الرئيس بيترو بتعيين أسماء من خارج معسكر اليمين المتشدد على رأس هاتين المؤسستَين القضائيتَين الهامتين.
وقد انطلقت الحملات الإعلامية والقضائية الممنهجة باتهامات باطلة للرئيس بيترو بالحصول على تمويلات غير مشروعة من عصابات المخدرات سيئة السمعة لحملته الانتخابية الرئاسية، ثم الانتقال بعد ذلك إلى اتهام نجله بالكسب غير المشروع ومحاولة إلصاق التهمة بوالده، غير أن الرئيس بيترو تعامل مع هذه الاتهامات بشجاعة نادرة، ودعا القضاء إلى محاسبة نجله بكل نزاهة وشفافية، ولم يتدخل إطلاقًا حتى بعد صدور الأحكام القضائية عليه.
مصادر مالية مشبوهة
بعد ذلك، انتقلت الاتهامات الموجهة إلى زوجة الرئيس بالإسراف والتبذير وإساءة استخدام المال العام، وتخلل تلك الحملة الشرسة بعض الهجوم الممنهج والمدروس على زوجته وبناته في الأماكن العامة، وإخراج ذلك في وسائل الإعلام المختلفة وبكثافة غير مسبوقة على أنها رسائل صريحة من الشعب الكولومبي بعدم محبته للعائلة الحاكمة.
وانتقلت هذه الحملات المغرضة في منتصف السنة الماضية إلى قضية رأي عام شغلت حيزًا واسعًا من اهتمام وسائل الإعلام والجماهير، وتعلقت بنشر تسريبات خطيرة لرئيسة ديوان الرئيس لاورا سارابيا، وسفير كولومبيا السابق في فنزويلا أرماندو بينيديتي، حول خلافات حادة على مبالغ مالية "مشبوهة المصدر"، تلقفها المدعي العام على عجل، وأقحم فيها اسم الرئيس كالعادة، لكن الرئيس بيترو أثبت من جديد وبكل وضوح أنه لا علاقة له إطلاقًا بالخلاف الشخصي الدائر بين سارابيا وبينيديتي.
ومع نهاية السنة الماضية العصيبة، تمكنت قوى المعارضة المتربصة في البرلمان من مساءلة وزير الخارجية ألبارو لييبا، المقرب جدًا من الرئيس بيترو، وإجباره على تعليق مهامه الرسمية لمدة ثلاثة أشهر كعقاب على إدارته ملف جوازات السفر الشائك.
حيث دأبت وزارة الخارجية الكولومبية على إسناد مناقصة مليونية منذ عام 2007 لشركة "توماس غراغ" المتخصصة في إعداد الجوازات وطباعتها، لكن الوزير المعاقب بقرار سياسي جائر، قرر رفض إسناد المناقصة لنفس الشركة؛ بسبب ترشحها وحدها دون أي منافس آخر، مبررًا ذلك بأن هذا الوضع لا يستجيب إطلاقًا لسلامة شروط المناقصة، زيادة على أن الرئيس بيترو قال صراحة وبكل قوة: "التلاعب بمظاريف المناقصات لتحديد الفائز مسبقًا هو الفساد بعينه!"، في إشارة واضحة إلى أن هناك شبكة فساد متغلغلة داخل الوزارة تعمل على ذلك.
شيطنة واستنزاف
المثير للدهشة والتساؤل هو أنه في الوقت الذي يخضع فيه وزير الخارجية للعقاب الجائر، فازت الشركة نفسها الأسبوع الماضي بنفس المناقصة المثيرة للجدل! ولم تنتفض أي جهة قضائية للتنديد بهذا التجاوز الخطير، وعلى رأسهم المدعي العام المتواطئ!
أما آخر "المؤامرات" التي اعتبرها الرئيس بيترو تجسيدًا حقيقيًا للانقلاب الناعم عليه، فتتمثل في شيطنة الترشيحات الثلاثة التي اقترحها بمساندة ومباركة من المحكمة العليا لخلافة المدعي العام المنتهية ولايته، اليميني المتشدد فرنسيسكو باربوسا.
وفي المقابل، تبدو مؤشرات المماطلة والتسويف في حسم هذه الترشيحات واضحة للعيان، وذلك من أجل الاكتفاء بتولي مارتا مانسيرا، نائبة المدعي العام باربوسا، منصبَه بشكل مؤقت، حتى انتهاء ولاية رئاسة بيترو، وهو سيناريو مقبول قانونيًا في ظل العجز المصطنع عن التوصل إلى توافق حقيقي على مرشحي الرئيس!
وهذا ما وصفه الرئيس بيترو بأنه "انسداد" مفتعل من قبل قوى اليمين المتنفذة، وذلك بهدف احتكار السلطة القضائية الحساسة، وتسخيرها لشن حرب قضائية ضده فيما يُعرف بالإنجليزية بـ" lawfare"، وتصفيته إما قبل نهاية ولايته الدستورية، أو بإطلاق أحكام جنائية قاسية ضده لاحقًا، بشكل يمنع عودته مستقبلًا إلى الحياة السياسية، على النحو الذي حصل مع الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، ورئيس الإكوادور السابق رافاييل كورّيا، وكثيرين آخرين من تيار اليسار الاجتماعي العريض في المنطقة.
في الوقت الذي يهوّن فيه رموز اليمين الكولومبي المتنفذون من اتهامات الرئيس بيترو للسلطة القضائية بالعمل على الإطاحة به عاجلًا أم آجلًا وطي صفحة عودته إلى المشهد السياسي، معتمدين في ذلك على قدرات الآلة الإعلامية الهائلة لاستنزافه وشيطنته في نظر المواطنين الكولومبيين، يرفض الرئيس بيترو أن يكون بيدرو كاستيو كولومبيا.
في إشارة واضحة إلى رئيس البيرو السابق، الذي تجمعت عليه السلطة القضائية والسلطة التشريعية والترسانات الإعلامية الضخمة، وأقالته من منصبه الرفيع منذ سنتين، وألقت به في غياهب السجن بتهمة الشروع في الانقلاب على البرلمان الذي لم يكن في صفه يومًا.
